الأربعاء، 20 مايو 2015

باب الأربعين....سيرة ذاتية لإنسان عادي

مقال شخصي جدا ... 
 · كنت أعمل في مكان ما وتصادف مرور 40 سنة على تأسيس هذا المكان ،قرروا عمل احتفالية كبيرة من بينها إصدار مطبوعة فيها كلمات للموظفين .. طلبوا أن يكتب كل موظف كلمة موجزة عن الحدث الكبير ...كتبت سطور من الثناء والمدح في سن الأربعين أظن أنني قلت أن سن الأربعين هو سن النضج والحكمة والنبوة ... أظن الكلمة نالت إعجابهم بدليل أن أحد كبار الكبار قراها في الطبعة التجريبية فأعجبته جدا لدرجة أنه قرر أن ينسبها لنفسه !

 ·الان وفي هذه الليلة المفترجة ... أنا لا أصدق أنه قد مرت أربعين سنة من عمري ...كم هو قصير هذا العمر ؟! ...
سنى بروحي لا بعد سنين            فليسخرن غداً من التسعينِ
عمري للسبعين يركض مسرعاً        والروح باقية على العشرينِ
أظن روحي أقل من العشرين .. وأن بين جنباتي يقفز طفل صغير.. ربما هو أصغر من اصغر أبنائي ... طفل لا يزال يتعرف على الأشياء ويتعامل مع الجميع بكل سذاجة ، وبداخله أمال طوال تبحث عن النور ... وتسكن مخيلته أحلام ربما كانت أجمل من أن تتحقق !

 · منذ كنت صغير كان يسيطر عليً احساس أنني سأموت قبل أن أكمل الـ 40 عاماً .. كان صديق طفولتي (إيهاب ) كثيراً ما يسخر من هذا، كان يقول لي : سأهنئك يوم تكمل الأربعين .. للأسف لن يستطيع (إيهاب) تهنئتي! لقد مات من سنتين فيما صار في مصر من أحداث مروعة !! 

 · طنطا مسقط الراس ، ومرتع الطفولة ... أبي وأمي .... هي الأصل ، وأظن أن من يفقد الصلة بمسقط راسه أو يتنكر له هو انسان (...........) .
 والعجيب في طنطا أنها مثل الكمثري ... تشوف الكمثري تحتار هل هي اصلا تفاحة أم جوافة ... شيء محير .. طنطا أيضا تشوفها تحتار هل هي قرية ؟ أم مدينة ...؟  قدر طنطا أنها (مكان كبير) اجتمع فيه مساؤي القرية ومساؤي المدينة ففيها من القرية مثلا أنك تقدر تلاقي حمار حصاوي يمشي بافتخار في شارع النحاس ... وفيها من المدينة الزحام والصخب .

 ·في عام 1981 التحقت بالتعليم بالصف الأول الابتدائي ، في هذا العام دخلت المدرسة ولم أخرج منها ... فحتى اليوم وأنا اتنقل بين أروقة التعليم......طالب ثم باحث ثم معلم ثم مستشار في التعليم ...
لا أعرف في حياتي إلا التعليم .. 
ولا أتقن مهنة غير التعليم ...
ولا أحمل في جعبتي إلا قوت التعليم
لا ادعي شرف انني احمل رسالة التعليم 
ولا أدعي كرامة أنني أحمل فلسفة تربوية ... 
ولكنى على يقين أنني احمل هم التعليم وتؤرقني همومه ....
وبرغم كل هذا فقد قررت منذ عدة سنوات ان اهجر رسالة التعليم .... وافتح "مقلة لب " وهو مشروع مربح ومريح لبيع اللب والسوداني بعد تحميصه ...نعم كنت اتمنى ان انتقل من قمة الرقي لقاع التفاهة ...في البداية كانوا يعتقدون أنني امزح ... وعندما وجدوني جاداً سخر مني الجميع ورفضوا الفكرة حتى اسرتي ...هم لا يعرفوا ما عانيته واعانيه يوميا ...

 ·أبلة فايزة مدرستي في مدرسة الشهيد مصطفى حشمت الابتدائية كانت تتسلى ذات حصة وهي تقطف الملوخية في الفصل ، ويبدو أنه خطر في ذهنها أن مرتبها سيكون حرام لو لم تقوم بتدريسنا فتفت في عبها ثم قررت أن تستمر في تقطيف الملوخية وفي نفس الوقت تدرسنا وفي نفس الوقت تتسلى ... عندما بدأت تسال كل واحد منا : تحب تطلع أيه لما تكبر ؟؟.. دكتور مهندس مدرس ...
لما جاء الدور عندي قلت لها وبكل ثقة : عايز أطلع مؤرخ .. بالنسبة لأبلة فايزة ، كانت الملوخية أهم من مناقشتي ما المؤرخ أصلا وما صنعته ؟؟ . لاسيما أنني لا زلت أذكر أنني  سألتها : لماذا سمى الإمام البخاري بهذا الاسم ؟ فقالت : لأنه ولد في مدينة بوخارست !
عموما ، مولع أنا بالتاريخ منذ صغري ، هو قصة لا تنتهي ، وإن كانت قصة مليئة بالأكاذيب، ولو قدر لي أن أدرس التاريخ لكنت ألفت كتاب عنوانه ( من الذي يكتب التاريخ ؟)  .

 · أول مرة أخرج فيها من طنطا ربما كانت وأنا عمري 5 سنوات و أخذني أبي من يدي لنزور أخته الوحيدة في الإسكندرية ... كانت زيارة مؤلمة لا زلت أذكر فيها حادثتين تاريخيتين لا تزال تطارداني للجيل الأكبر في العائلة ..
-الأولى أنني نزلت البحر وكانت أول مرة انزل البحر ويبدو أنني كنت حسن النية فشربت منه شرب الضمأن ... ولما ففوجئت بملوحة البحر ، بصقت فيه وخرجت وأنا أردد كلمة صارت تاريخية لعدة سنوات وربما حتى الأن : " بتوع اسكندرية حطولي على المية ملح " .
-الثانية أن الوالد أحب أن نصلي في مسجد المرسي ابو العباس ... وللاسف الشديد قمت بتنجيس المسجد فخرجت جملة أخرى شهيرة في العائلة : " المرسي ابو العباس .. اللي إبراهيم قلع فيه (اللبا؟ ) !! "

 ·زواج ابنة أختي الكبرى سيكون بعد 3 شهور ... هل تعرفون ما  نتيجة هذا ؟ شاب يافع سيقول لي : يا عمي ... لا الموضوع أكبر .. ربما بعد شهور قليلة يزور العالم من يقول لي : يا جدو !!

 · لن اتطرق هنا للحديث عما عانيته في طفولتي من عوز ... أنا لا أخجل من هذا ، ولكني اتلفت الأن حولي فأجدني من اسرتي وعائلتي بالكثيرين ممن لا يحبوا هذا الحديث  أو حتى من يذكرهم به..... 
عموما لا أظن أن الفقر عيب .. أو مدعاة للخجل ....ولكني أيضا أظن أنه ليس مدعاة للتفاخر !

 · بمناسبة الفقر ... أعاني من فجوة ضخمة تفصلني بيني وبين أبنائي .... لا أدري كيف أعبر إليهم ؟ ولا أدري كيف أمد لهم جسراً نتلاقى في منتصفه؟ !! ملخصها : أبي كان فقير ، أما هم فأبوهم غني ...

 ·يؤلمني كل من يحدثني قائلا : انت تبحث عن المثالية في عالم لا مكان فيه للمثاليات  ...  لكني أعشق أن أمتع عيوني بمشاهدة النجوم في السماء حتى وأنا غارق في الوحل حتى أنفي ...

 ·كنت الوحيد من بين أشقائي الذي ورثت عن أبي : الصلع وارتفاع ضغط الدم كما وورثت عن أمي ضعف البصر الشديد ، إطلاقاً أنا لست ساخطاً أو حزيناً بالعكس أظن أنني الوحيد الذي أثرني أبي وأمي بذكرى وميراث منهما لا يمكن أن ينازعني فيه أحد !

 · ثمة أمر لم أفهمه حتى الأن .. فبرغم ما كنا نعانيه في طفولتنا من الفقر إلا أن ابي كان حريص ان يشتري كل يوم صحيفتي الأخبار والاهرام ،وشهريا مجلة العربي الكويتية ومجلة الشباب المصرية(وقت رئاسة تحرير عبد الوهاب مطاوع) ، واسبوعياً مجلة ماجد الإماراتية للأطفال ... كان الراديو مفتوح 24 ساعة على إذاعة مونت كارلوا أو البرنامج العام ... كان ابي وامي شغوفين على المعرفة ...لماذا لا أعرف ؟ تخيل مثلا انك لو كنت دخلت شقتنا المتواضعة(لم تكن شقة بل كانت غرفة في مساكن شعبية في طنطا) فلا تجد تليفزيون ملون ولا ثلاجة ولا غسالة ... بل تجد صفوف من صحف وكتب ومجلات !!!

 · بدأت لحيتي تستسلم تدريجياً للغزاة من تتار الشعر الأبيض ... المشكلة فقط في لحيتي ، لأنه بالنسبة لشعر رأسي لا توجد لدي مشكلة .... شعر رأسي سقط بالكامل تقريبا !

 ·في مدرسة الجمعية الخيرية الإعدادية .. اختارتني مُدرسة الموسيقى لأكون عازف كمان .. تقريبا عجبها حاجة في صوابعي أنا نفسي كنت ولازلت مندهش لهذه الألة الرهيبة (القيثارة أو كما يطلق عليها في مصر كمان ) ... حتى اسمها فخيم (قيثارة )
المهم الأستاذة قالت لي : عندك أذن موسيقية مرهفة ..واصابعك أصابع كمانجاتي ... . تدربت على الكمان في المدرسة ولما اتقنتها قررت المدرسة وفي سابقة غير لا تتكرر كثيرا أنني استحق أن اصطحب الكمان معايا للبيت ... برغم أنها عهدة على المدرسة ،ولكن الفنان يجب أن يتعايش مع آلته ليل نهار ... أذكر يوم عدت بالكمان للبيت ... ودخلت به على أمي وأخواتي ... أخفاه الجميع حتى لا يراه أبي وفي اليوم التالي أعدته للمدرسة .. أظن أنني لم أرى كمان من يومها ! 

 ·ربما هو رابع استشاري في القلب وأمراض ضغط الدم أزوره لكي نحل سويا لغز (ضغط الدم) ولكن بلا فائدة. لا يوجد علاج يستطيع أن يلجم ضغط دمي ، ينظر الطبيب من تحت النظارة : التحاليل ممتازة ، أكيد العيب في العلاج ... مين الحمار اللي كتب العلاج ده " أجيبه في سخرية : دكتور زي حضرتك بالضبط !

 ·في اماكن الانتظار.. صار بعض المراهقين المهذبين يقدمونني قبلهم بكل ود : اتفضل يا عمو ... اقعد مكاني يا عمو ... عمو .. عمو .. منذ أسابيع قرأت مقالتين لرجل وامرأة في نفس سني تقريبا .. الرجل يشتكي من أن الناس ينادونه (استاذ ) والمرأة تشتكي أن الناس ينادونها ( طنط) ،وضعت كلمات : عمو – استاذ – طنط بجوار بعضها ... قارنت بينهم .... أظن أن كلمة (عمو) أفضل بكثير من كلمة طنط !!

 ·أظن أن الحياة هي أكبر مؤسسة ربوية في التاريخ ... فهي تأخذ منا اضعاف ما تمنحنه لنا .... ودائما ما تسبقنا خطوة تحول دون أن تكتمل سعادتنا ... 
فقد كان أملي أن اصبح ميسور الحال لأرد لأبي ولأمي القليل من فضليهما ..... فلما تيسرت أموري التفت فلم أجد أبي ولا أمي ..رحمها الله ..
وكان أملي أن أصبح ميسور الحال لأكل ما حرمت منه في طفولتي .... فلما تيسرت أموري حرمي الطبيب من نصف ما اشتهي .. !

 · ورثت عن أبي ( دون اخوتي ) فلسفة تثير استغراب الجميع ، كان أبي  يؤمن أن الإنسان ليس ملزم أن يترك لأبنائه ثروة مالية ولا ميراث ثمين .. كان يقول لي : ليس من بين إجراءات الدفن أن يقدم الميت كشف حساب بنكي !! لذلك أنا لست حريصاً على أجتهد وأعمل لساعات طويلة وألهث ليل نهار وأضغط على أعصابي وأحارب الدنيا من أجل الفلوس ...حتى أترك لأبنائي مدخرات تكفيهم.... للاسف فشلت كل محاولاتي في أن أبرر موقفي مع المال 

 ·الأن انظر خلفي ... أتأمل ما وصلت إليه في الحياة :   حسنا .أظن أنني حققت في الحياة أكثر بكثير مما توقعت...... وإن كنت اعتقد أنه أقل وبكثير مما استحق !

 ·ثم أنظر أمامي للمستقبل فأظن أن لدي – بفضل الله - دقيق خبز يكفيني لسنوات !

21-5-2015


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سأقوم بمراجعة التعليق ثم أنشره في أقرب وقت إن شاء الله